تاريخ المدينة

  •  

    لا يمكننا أن نضبط بكل دقة تاريخ تأسيس مدينة رأس الجبل فجذورها ضاربة في عمق تاريخ البلاد التونسية، لكن الأكيد أن العوامل الطبيعية الملائمة ساهمت في انشاء مدينة رأس الجبل، فهي مشرفة على البحر الأبيض المتوسط ومنفتحة في ذات الوقت على سهل ساحلي ضيق وخصيب وافر المياه. ولنا أن نورد ما كتبه محمّد الحشايشي في وصف البلدة ومحيطها الطبيعي حيث يذكر: ''وأغلب جهات القطر " التونسي " سليمة الهواء موافقة للصحّة، ومن هاته الجهات الحسنة المشهورة المكان المعروف بٍاس الجبل، وهو جهة الشمال من القطر بقرب شاطئ البحر تبعد القرية التي هي مركزة عن البحر نحو أربعة أميال، والبحر من شمالها، وهي على سفح جبل منخفض تحف بها البساتين ناظرة إلى البحر، تسقى بآبار ماء حلو جيد نقي، وعلى شاطئ البحر عين ماء عذبة ضعيفة الجريان، لكنها نابعة من الصخر حلوة جدا، نقية مسرعة للهضم " من كتاب العادات والتقاليد التونسية الصادر سنة 1904.

    هذه العناصر الطبيعية الملائمة جعلت المنطقة تستقطب الحضور البشري مند الفترة البونيّة والرومانية، وبالفعل فالشواهد الاثريّة على هذا الماضي متعدّدة ولا يزال البعض منها قائما في محيط المدينة، ومن ذلك ما تم العثور عليه بصفة عفوية سنة 1991 والمتمثل في شاهد قبر يرجع إلى الأرجح إلى القرن 3 أو 2 قبل الميلاد، كذلك لوحة الفسيفساء التي تم اكتشافها في سبتمبر 1909 امام أحد مساجد البلدة، وتبلغ أبعاد اللوحة 3.30 م على 3.05 م وما يميزها هو الإطار الذي يتوسّطها يحمل عبارة NICADI ، واللوحة معروضة حاليا بالمتحف الوطني بباردو.

    وبالعودة إلى التجمع السكني الذي كون النواة الاولى للمدينة، فإن الروايات الشفوية المتواترة تؤكد على الأصول الأندلسية، ذلك أنه على إثر سقوط مدينة سرقسطة سنة 112 م (512 هـ) في إطار حركة الأستؤادا بإسبانيا هاجرت مجموعة عربية تنتمي إلى فروع بني غالب، وحطت الرحال في الموضوع الحالي للمدينة، ومن بين المهاجرين الشيخ سيدي عبد الله اللخمي السرقسطي الذي يعتبر المؤسس المفترض للمدينة وقد توفي سنة 701 هـ - 1305 م طبقا للنقيشة الموجودة في مقامه الكائن بالحي الذي يحمل اسم حومة سيدي عبد الله.

    إثر مرحلة التأسيس تواصل نمو التجمع السكني فخلال القرن الخامس عشر نشأت أحياء جديدة منها حومة القصر المتميزة بتخطيطها العمراني وحصانتها ويتوسطها أحد أعرق المعالم الدينية بالمدينة وهو الجامع الكبير الذي يعود بناؤه غلى أواخر القرن 15 م (بداية ق 10 هـ) وتم افتتاحه طبقا للنقيشة كانت تعلو محاربه يوم الجمعة فاتح شهر رمضان من سنة 904 هـ/ 1499 م.

    خلال الفترة الحديثة تواصل التوسع العمراني للبلدة وتزامن ذلك مع تواصل توافد عناصر بشرية جديدة فإضافة إلى العائلات الأندلسية استقطبت البلدة بحكم موقعها الاستراتيجي عناصر تركية أسست على ساحل البحر نقاط مراقبة تعرف بـ " بيت العسة ". كما توافد على البلدة عناصر من مختلف المناطق التونسية من ذلك جالية جربيّة متميزة عدديا، كان يدير شؤونها شيخ الجرابة وينتمي إلى عائلة الكواش.

    ثم ازداد النسيج العمراني ثراء من خلال تشييد العديد من المساجد مثل مسجد السوق، مسجد الرحبة، وأيضا في العدد الكبير من الزوايا والمقامات التي فاق عددها 30، ومن أبرزها زاوية الشيخ سيدي بن عيسى وكانت تعتبر أكبر زاوية للطريقة العيساوية بمنطقة بنزرت، إضافة إلى زاوية السيدة العجولة الغربية وزاوية الشيخة البيّة... وبالإضافة إلى هذه المعالم الدينية، بالمدينة منشآت معمارية متميزة من ذلك الحمام الكبير والذي يعتقد أن بناءه تزامن مع بناء جامع الكبير (ق 15 هـ).

    إن الظروف الطبيعية الملائمة وحركية السكان وتنوع أصولهم ومهاراتهم أكسب المدينة إشعاعا وتنوعا في الأنشطة الاقتصادية. فالنشاط الفلاحي الذي كان للأندلسيين دور كبير في تنميته يجمع بين زراعات الحبوب على المرتفعات، وغراسة الزياتين على السفوح، والزراعات السقوية في السهل الساحلي في إطار بسلتين مروية دائمة الخضرة، حيث أدخل الأندلسيون غراسات جديدة من الاشجار المثمرة خاصة المشمش الذي كان تاريخ قريب، يوجه إلى الأسواق العالمي. كما استجلب الاندلسيون تقنيات ري جديدة أساسا الناعورة وقد وصف عثمان الكعاك أحد البساتين خلال حديثه عن رأس الجبل في دراسة خصصها للمدن الأندلسية، حيث يقول " وبساتين رأس الجبل أنيقة جميلة منظمة على الأسلوب الأندلسي فمماشيها مزدانة بسمطين من شجر السرول ومرتفعة إلى السماء في جلالة وابتسام، مخاريط ممشوقة أنيسة مياسة ممن الزبرجد تسرح فيها أسراب من الحساسين تشدو أناشيد الفجر وألجان الغروب ...

    وفي ناحية من النواحي بين مغارس النارنج الكروية الشكل كقباب من القراميد الخضراء توجد الناعورة الاندلسية حيث تتصاعد قواديسها وتنحدر في أنين وآزيز وقعقعة وبكاء وشرشرة وزقزقة وحزير وبقبقة ونشيش، قد ارتفع بتاؤها فوق البئر وظللته مشمسة كبيرة ممتدة الأغصان شامخة الأنف وأرفة الظل باسمة الأوراق. وغرست في البطحاء العليا منه سموط من الخيري والقطمير والبنفسج والورد…''

    وقد جلبت هذه الخضرة انتباه الأوروبيين فأورد Georges.J في كتابه La Tunisie apicole الصادرة سنة 1912 : « Ras El Djebel est un des plus beaux jardins de la Tunisie qui au printemps n’est qu’un vaste parc parfumé » كما كانت البلدة خلال القرن XIX مركزا متعدد الحرف البعض منها مرتبط بالنشاط الفلاحي سواء لتوفير وسائل الانتاج من آلات فلاحية بانواعها أو لتحويل المنتوج من ذلك الحياكة والنسيج لصناعة الأغطية الصوفية، وصنع الملابس خاصة '' الكدرون " الأبيض المحلي و"الكبوط" الأبيض القصير المتشمر.

    كما اشتهرت البلدة بصناعة الفخار واختصت بها بعض العائلات مثل عائلة برق الليل والغضبان والقلعي ومكشاحة وقد اشار بعض الباحثين الفرنسيين مند فترة الحماية إلى هذه الحرفة حيث يذكر André Louis و Pierre Lisse في كتابهما «les potiers de Nabeul, étude de sociologie Tunisienne» الصادر سنة 1956.